ثقافة قالوا عن «الكبير» الصغير أولاد أحمد بعد رحيله
عاشت تونس وشعبها على وقع فاجعة مؤلمة حقيقية تمثّلت في رحيل الشاعر الكبير «محمد الصغير أولاد أحمد» الذي أحب البلاد كما لم يحبها احد، مخلفا كنزا أدبيا كبيراً ورّثه للأجيال القادمة التي ستظل طول الدهر تفخر بأنها تنتمي إليه.
لم يكن أولاد أحمد شاعرا عاديا ولا إنسانا عاديا ولا رجلا عاديا، فقد كان رمزا للوطنية والوفاء وكان قمرا يطل بنوره ليضيء ظلمة زوايا منسية ومسكوت عنها بعد أن لفّها النسيان..
فهو الذي تغنّى بالمرأة التونسية في أشعاره فأبى إلا أن يوصّفها بأنها امرأة ونصف، بعد أن اختار الوقوف في صفّها والانتصار لها دون أن ينتظر لا جزاء ولا شكورا..
نساء تونس ونصف اخترن أن يرددن لشاعرهنّ الجميل، فخيّرن مرافقة شاعر الخضراء إلى مثواه الأخير في جنازة مهيبة، صدحت فيها حناجرهنّ بشعارات تخلّده وأطلقن الزغاريد عاليا لتتماهى مشاعر الوجع والألم بمشاعر النخوة والعزّة بكون الشاعر أولاد أحمد هو ابن تونس ومن صلبها فهو الذي عشقها وأحبها كما لم يحبها أحد..
نساء تونس اللائي كتب عنهن أولاد أحمد ما يلي:
كتبتُ،
كتبتُ..
فلم يبق حرفُ.
وصفتُ،
وصفتُ..
فلم يبق وصفُ
أقولُ، إذا،
باختصار ٍ وأمضي:
نســاءُ بـلادي
نســـاءٌ.. ونصفُ
نعم رحل أولاد أحمد بجسده وجثمانه لكنه خلّد روحه بيننا ووثّق قصائده الرائعة في مخيلتنا وسجّل نبرات صوته المتمرّد في عتبات ذاكرتنا التي لن تنساه..
هكذا ودّع أولاد أحمد «حبيبته» تونس قبل ساعات من وفاته
تجدر الإشارة إلى انّ الشاعر نشر تدوينة له قبل ساعات فقط من وفاته في شكل قصيدة شعرية عنونها بـ «تونس» وكأنها قصيدة الوداع، جاء فيها ما يلي:
«تونس
سلّمتُ في الدُّنيا...
وقلتُ:أ كونُها:
شعرًا
ونثرًا
ناقدًا
ومُبشّرًا
...طولَ الفصولِ الأربعهْ
2
أنْثَى
وأمّي
...........................
ليس لي .... قبْرٌ
في المــَا-بعْدُ
(في الأُخْرى)
سوى هذي الحُروفِ الأربعهْ:
تونس»
هذا كما نشر الشاعر في يوم عيد ميلاده الاخير ـ قبل وفاته بيوم ـ تدوينة عنونها بـ»ميلاد» كالتالي:
«ميلاد
عيد ميلاد في غرفة أنيقة بالمستشفى العسكري؟
هذا يحدث أيضا.
سأعيش هذا العيد وأحكي لكم، رغم أنّ أصابعي تثقل زمن الكتابة، وعواطفي تنساب بغزارة إذا تمكّنت من الكتابة.»
«إليك أولاد أحمد»:
بقلم المسرحي
نور الدين الورغي
البلاد بعدك
كَـرْهــتْ لَـــيّــامْ
الإثــنــيــنْ حــزيـنْ
الثلاثاء يــتْــرَهْــوجْ
الإربعـاء رزيـــنْ
الخــمـيـسْ بـوتِـــلّــيــسْ
جــمْــعـة الــحــرامْ
ســبــت الــحــزامْ
أحَـــدْ الــمـنـامْ..
كَــرْهـــتْ
عـــشــيّــة الخــمــيسْ
صـبــاح الأحَــدْ
جــمْــعـة إبْـــلــيـسْ
وجــلابــيـبْ الـصّــمَــدْ
الثلاثاء والإثــنــيـنْ
وأحْــزابْ الـسّــتّــيـنْ
وسُـــقّــاطْ الــبَــلَــدْ..
جــانــفــي الدّهْــشَــة
فــيفــري الــحــيـرة
مارسْ الغــورة
أفْــريل الـــرّشْ
مايْ الـخَـــدّامْ
جــوان الــقـــرْفَــالَة
جويلية الأسْــقــامْ
أوت الــنّـــبّــارة
خريـــف الــغَــضَــبْ
أكـــتـــوبــر «قـــيــفــارا»
وثـــلوج الـــتَّـــعَــبْ ..
«ليكن اسم بيت الشعر في تونس العتيقة: بيت أولاد أحمد»: بقلم الشاعر منصف الوهايبي
أولاد أحمد لغةٌ مليئة بأشياء الحياة اليوميّة، تجري في عربيّة حيّة مثل «اللحمة الحيّة»؛ لا تلوي عليها حبال الاستعارات وأورام البلاغة. وهي تبعث في القارئ وهما جميلا بأنّ اللغة نفسها قد اختفت، وليس من وسيط بين العالم والشعور؛ وكأنّ الأشياء والكائنات في نصّه، ليست كلمات؛ فهي تفصح عن مكنوناتها دونما حاجة إلى اللغة.
والحقّ أنّ»التّهجين» اللّغويّ في نصّه لا يخفى. على أنّ الكلمة «العاميّة» فيه تحرف مجراها، وتُستفرغ من مدلولها. بل أنّ المعنى في سياق هذا الشّعر ليس « الواقعيّ» وإنّما هو» الموقف» بامتياز. وأولاد أحمد شاعر مواقف بامتياز.
كان يطلب هذا الموقف أو ذاك، ولا يبالي باللّفظ حتّى لو تمّ له المعنى بلفظة عاميّة أو أجنبيّة لأتى بها. كتب إليّ صديقي الشاعر الفرنسي جون كلود فيلان يعزّيني في أولاد أحمد» أجل أنت تؤدّي جيّدا عن هذه الحركة المستمرّة ذهابا وإيابا التي هي أشبه بمفصلة بنابض؛ تسمح بفتح باب في الاتجاهين، بين التجربة والخلق، بين الشعر والحياة. وعند الصغيّر، يلوح هذا قويّا بدَهِيّا مذهلا.
لكن أليس كلّ شاعر حقّ يفعل ذلك؟ ثمّ هناك الآخرون: المتصنّعون النفّاجون هواة الكلمات المتقاطعة. كان رمبو قد فضحهم، وهو الذي كان يريد «تغيير الحياة» بعبارته. وكانت هذه الصيغة « الحياة التي أفكّر فيها كلّ يوم» تناسبه تماما. الآن يجب أن تعود إلى بيت الشعر الذي أسّسته أنت في تونس عام 1994: ليكن اسم بيتك هذا « بيت أولاد أحمد».
سلاما للضوء الذي ينبثق في تويجات اسمك.. يا أخي.. يا محمّد الصغيّر..
إعداد: منارة تليجاني